روايات شيقهرواية احتيال و غرام

رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني

صباح اليوم التالي
وصل كلاً من مريم و بدر، وقد كانت مريم تحاوط ذراع بدر بقوة وكأنه سيهرب منها في أي لحظة، وما إن اقتربا من بوابة القصر حتى استوقفته مريم للحظة تهمس له بقلق مصطنع:
-بدر انا خايفة
فربت على ذراعها بحنان فطري وهو يخبرها:
-متخافيش طول ما أنا معاكي
-خليك جمبي طول ما احنا جوه اوعى تسبني لوحدي معاهم
قالتها بنفس النبرة التي تجد صداها بين ثنايا قلبه الحاني والذي لطالما كان مضجع عشقه لها…

-حاضر متقلقيش
قالها وهو يومئ مؤكدًا برأسه، وبالفعل دلفا سويًا للقصر، ليجدا أيسل ووالدتها تجلسان بصمت وكأنهما منهكتان بعد نقاش حاد…

وقفت فاطمة تزفر بعمق ما إن رأتهما، للحظة تخيلت إختفاء بدر بسبب تلك الفتاة وما يليه من مصائب فشعرت بجسدها كله يثلج بشعور بارد قاسي من الذعر…
حاولت رسم ابتسامة هادئة على ثغرها وهي تردد بترحيب:
-اتفضلوا نورتوا.

في البداية كانت عينـا مريم على أيسل، تتفحصها بدقة غير مبالية بمن حولها، الحقد أظلم عيناها كغيوم مُلبدة، اقترب إنتقامها كثيرًا، اقترب ذلك اليوم الذي ستقتلع فيه روحها لتحاوطها بشبح حقدها الأسود الذي لن يفارقها يومًا حتى يُزهقها…!
استدركت مريم نفسها سريعًا، لتقترب من فاطمة راسمة تلك الابتسامة البريئة المُستهلكة في خداع بدر، ثم قالت برقة:
-ده نور حضرتك، ازي حضرتك يا طنط؟

اومأت فاطمة برأسها متمتمة برفق:
-بخير يا حبيبتي، ازيك انتي؟
-الحمدلله بخير
ردت في هدوء ثم ظهر الحرج مستلًا قيادة تعبيراتها الماكرة وهي تغمغم بصوت منخفض نوعًا ما:
-أنا عارفة إني هتقل عليكم الفترة دي، أسفة بجد لكن والله حاولت اتأقلم على إني افضل لوحدي بس مقدرتش
فهزت فاطمة رأسها نافية بسرعة:
-لا طبعًا ما تقوليش كده، أنا اكتر حاجة تفرحني إن ضيف يجي بيتي.

تلوى ثغرها بتلك الابتسامة المصطنعة، ثم اقتربت من بدر الذي كان واقفًا بصمت لتحاوط ذراعه مرة اخرى ولكن هذه المرة بتملك ازداد ثورانًا وتأججًا في وجود غريمتها، لتتابـع بعدها بمكر انثوي:
-اصل انا وبدر مش بنسيب بعض ابدًا طول اليوم إلا لما يروح الشغل، فمبقتش بقدر أقضي يوم من غيره
اومأت فاطمة بشبه ابتسامة مُجاملة وهي تردد:
-ربنا يخليكم لبعض
-يارب.

بينما أيسل كانت تحدق بهم بعينان مشتعلتان بجحيم الغيرة الذي أهلكت فقاقيعه روحها..!
ثم نهضت تنوي المغادرة إلا أن مريم استوقفتها قائلة ببرود خبيثة:
-انتي بقا أيسل صح؟
استدارت لها أيسل تعقد ذراعاها معًا وهي ترمقها بنظرة ذات مغزى مجيبة بنفس البرود:
-ايوه أنا أيسل صاحبة القصر اللي إنتي واقفة فيه ده
تلوت ملامحها كجلد الثعبان لتتغير للتأثر المصطنع وهي تتشدق بـ:.

-كان نفسي نتقابل في ظروف أحسن من كده، انا عارفة إنك مضايقة إنك اضطريتي تجبري حد يتجوزك، لكن فعلًا مفيش حل غير ده، انا لو مكانك كنت عملت كده!
اقتربت منها أيسل بخطوات بطيئة، ترميها بنظرة حادة شعرت بها تنخر عظامها من قسوتها، لتردف بحروف بطيئة قتلت تلك الهالة من البرود التي كانت تحاوطها لتظهر باطنها الذي يغلي كالمرجل:.

-مش أيسل الرافعي اللي تجبر حد يتجوزها، اديكي قولتي أنتي مش انا! إنما أنا أخلي أي راجل يتجنن عشان يتجوزني مش العكس
حينها تدخل بدر في الحوار مغمغمًا بنبرة رجولية عميقة ونظراته المُظلمة مثبتة على أيسل:
-أي راجل مش انا يا أيسل هانم!
تأرجحت نظراتها ما بين السخرية والغضب، تشعر بالتحدي يغرس مخالبه في أعمق نقطة داخلها.

ثم اومأت برأسها بكلمة كانت بمثابة قسم سيظل معلقًا بينهما حتى يصبح قلبه بين قبضتها فيسقط ذلك القسم:
-هنشوف يا بدر
ما إن أنهت كلمتها حتى إنصرفت لم تنتظر كلمة اخرى، بينما فاطمة حاولت التبرير بكلمات مقتضبة:
-انتوا اكيد عاذرين أيسل، اللي بيحصلها كله مرة واحدة مش شوية!
اومأت مريم برأسها مؤكدة وبابتسامة مُجعدة يكاد الحقد ينفجر من بين ثناياها ردت:
-اه طبعًا يا طنط، ربنا يقويها على ما بلاها!

على الجهة الاخرى
جلست ليال في الحجرة التي تقطن بها دومًا، شبه وحيدة تحارب أفكارها المذبذبة التي لم تجد سواها حاضرًا…
للحظات تأن كرامتها وذلك الرفض ينحرها، وفي اللحظات الاخرى يكتم قلبها ذلك النزيف رافضًا الاستسلام لتيار العقل…
تخشى الاستسلام للعقل فتسير في طريقه لتصل لمنتصفه وحيدة شريدة ممزقة بنصل الندم؛ الندم الذي لن يتركها حتى يُطفئ بريق روحها كما فعل بوالدتها تمامًا…!

قطع شرودها الباب الذي فتحته ورد ابنة عم يونس، التي اقتربت منها بابتسامتها التي تشع بهجة وهتفت:
-ازيك يا ليال؟
سرقت ليال ابتسامة من ضجيج الذكريات لترد بخفوت:
-الحمدلله تمام، إنتي عامله إيه؟
-الحمدلله
جلست جوار ليال على الفراش، ثم امسكت يدها لتردف بحماس أصابت شعلته كومة اللامبالاة داخل ليال:.

-بصي انا عارفه إن لما اتجوزتوا انتي ويونس معملناش حنة، فـ بنات العيلة تحت هيجيبوا واحدة بترسم حنة حلوه اوي إيه رأيك تيجي معانا ترسمي؟
للحظة ترددت ليال، كادت ترفض وذاك الضجيج المؤلم داخل رأسها يتصاعد، ولكنها أسكتته حينما دوى صوت موافقتها لتعلن:
-اشطا ياريت
إتسعت ابتسامة ورد وكادت تنهض ولكن ليال أسرعت ممسكة بيدها وتابعت بشيء من التردد:
-ورد هو انا ينفع اطلب منك طلب؟ أصلي بصراحة مليش كلام مع حد اوي هنا.

اومأت ورد برأسها مؤكدة بترحاب حار:
-طبعًا، اؤمري؟
رفعت ليال يدها تتلمس خصلاتها المقصوصة التي غطتها بـ حجاب صغير، لتتنهد بقوة وكأنها تُحيي داخلها روح المقاتلة من أجل حبها والتي استكانت للحظات في ركن ما داخلها بخواء قاسٍ بعدما حدث…
-انا كنت عاوزاكي توديني الكوافير أقص شعري كيرلي وأصبغه؟
ثم هزت كتفاها معًا وأكملت بصدق:
-انا فعلًا من زمان نفسي أقصه كيرلي وكنت هعملها قبل ما أجي هنا، بس ماجتش فرصة بقا!

اومأت ورد بسرعة وهي تغمزها بمرح حلو:
-يا سلام ياستي غالي والطلب رخيص
ثم نهضت تحكم حجابها حول رأسها وتخبر ليال بحروف هادئة مُبطنة بالتحذير:
-انا هروح ألبس وانتي كمان إتصلي بيونس استأذنيه وإلبسي وهستناكي تحت
-تمام يا ورد
تمتمت بها ليال بصوت ناعم، لتغادر ورد بالفعل، فنهضت ليال تكشف الستار عن خصلاتها، ما آلمها ليست تلك الخصلات، لأنها لم تكن مهمة كثيرًا بل كانت ستقصها هي عاجلًا ام اجلًا..

تلك الليلة جاءت ومرت كالطيف، ولكنها خلفت بعدها شعور قاسي من النبذ والكره الذي لحن نبرة صوته والتي لازالت تتردد بأذنها حتى تلك اللحظة…!

نهضت بالفعل ترتدي ملابسها، وما إن إنتهت حتى أمسكت هاتفها لتتصل بيونس، ولكنه كالعادة رفض مكالمتها!.
زفرت بعمق ثم لوت شفتاها بغيظ:
-ماتردش أحسن، أنا عملت اللي عليا وخلاص
ثم نزلت من الغرفة لتلحق بـ ورد التي اصطحبتها اولًا للكوافير ثم عادوا ليجدوا تلك الفتاة التي ترسم الحنة بإنتظارهم…

بعد ساعات، وفي غرفة ليال ويونس
وقفت ليال أمام المرآة تنظر لنفسها بزهو، بدايةً من خصلاتها التي صبغتها بخليط ما بين لون لم يصل لصفار الشمس واخر لم يصل لبياض الثلج…!
ثم ذلك الفستان الرقيق الذي ترتديه والذي يصل حتى ركبتيها، يُعري كتفاها عن عمد حتى تبرز تلك الرسمة التي أبدعت الفتاة في رسمها، والتي كانت على كتفها وتصل لرقبتها…
كانت فاتنة، فاتنة لن تتوانى عن إغواء ذلك القديس الذي تزوجته!

على ذكر سيرته في خاطرها، وجدته يفتح باب الغرفة كعادته عندما يعود من عمله، أخذ ملابسه من الدولاب دون أن ينطق بحرف واحد، يشعر بتأنيب ضمير خافت لما فعله بها تلك المرة يصدح داخله ولكنه يكتمه متجاهلًا صداه…

كاد يتخطاها داخلًا المرحاض دون أن ينظر نحوها حتى، ولكنها مالت في وقفتها امام المرآة وهي تهتف بنبرة بطيئة ناعمة وخبيثة:
-إيه رأيك في النيو لووك ده بتاع شعري يا يونس؟
تحركت عينـاه تلقائيًا لتحدق بها، فسقط مظهرها عليه كمطرقة حديد ملتهبة الاشتعال…!
ولكنه تجاوز ذلك الشعور سريعًا لتحتد عيناه بنظرة تعرفها جيدًا حينما يعلن شيطان الغضب وجوده بعيناه، ولكنها أكملت ببرود وهي تتلمس خصلاتها:.

-شكرًا إنك قصتهولي انا كنت مكسله اروح اقصه وأنت حمستني كتر خيرك والله!
كز يونس على أسنانه بعنف حتى أصدرت صكيكًا حادًا، كان يحاول تمالك أعصابه بشق الأنفس، ولكنها زادت الطين بلًا كما يقولون حينما استطردت وهي تنظر له في المرآة وتميل بكتفها ببطء متعمد:
-شوفت كمان الحنة اللي رسمتها؟ حلوه صح؟
لم تتزحزح نظراته من عليها، تلك النظرة المُظلمة الخاوية المُفخخة بالغضب والكره..

ليقترب منها ببطء كالفهد الذي يتربص بفريسته، ثم خرج صوته اخيرًا أجش وهو يسألها:
-امممم حنة، ودي رسمتيها امتى بقا؟ والقرف اللي عملتيه في شعرك ده عملتيه امتى؟
ردت بلامبالاة بينما عيناها تراقبه بتحفز:
-النهارده لما أنت روحت الشغل خليت ورد توديني.

أصبح خلفها مباشرةً، يُقرب وجهه من رقبتها عن عمد، فاختض قلبها بعنف وهي تعض على شفتها السفلية تكتم اعتراضًا ربما يشعره بغروره الذكوري، بينما أنفاسه الساخنة مع حصاره لها بهذه الطريقة تفعل بها الأفاعيل…

اخترقت رائحتها أنفه دون عناء بمجرد أن اقترب منها، وتلك الرسمة وكأنها تستفز أصابعه ليتلمسها، شعور لحظي كرجل باغته ولكنه حجمه في نفس اللحظة بالكره الذي يسير في عروقه تجاهها…

نظر للحنة الموضوعة في طبق امام المرآة، ثم اقترب اكثر حتى يستطيع الوصول لها فأصبح ملتصقًا بها لتزداد حدة تنفسها، لن تستطع، لن تستطع المقاومة اكثر، إستعر لهب عواطفها في تلك اللحظات لتشعر بجسدها كله وكأنه مستوطن بالجمر…!

إندفعت تنوي الابتعاد ولكنه حاوط خصرها في نفس اللحظة بقوة ليُعيدها مكانها أمامه، ثم همس جوار أذنها ببحة رجولية خشنة:
-هشششش، اثبتي مكانك
أغمضت عيناها بقوة تبتلع ريقها، ولم تلحظ يداه التي امتدت لتأخذ تلك الحنة السوداء في يده، ثم لمعت عيناه بحقد ماكر وهو يسألها بهدوء:
-عجباكي الرسمة مش كده؟
اومأت مؤكدة برأسها، ثم فتحت عيناها تحاول إجبار صوتها على الخروج:
-ايوه، وابعد قولتلك قبل كده متقربش كده؟

رفع حاجبه الأيسر باستنكار مغمغمًا بنفس المكر:
-ليه؟ هو انتي مش عامله كل ده عشان أقرب؟
إتسعت عيناها بحرج من إعلانه لها صراحةً، فردت بأول اجابة قفزت لعقلها:
-لا طبعًا، أنا آآ، عامله لنفسي، لكن أنت، أنت متهمنيش!
-فعلًا؟
رددها بابتسامة متهكمة لا تمت للمرح بصلة، ثم اقترب اكثر ليشعر بتلك الرعشة العنيفة تهاجمها، ليهمس بصوته الخشن المبحوح الذي يثير داخلها مشاعر لم تخوضها قبلًا:.

-واضح اوي إني ماهمكيش؟ امال جسمك بيتنفض كده ليه؟ وليه عملتي التمثلية اللي عملتيها قدام الكل اليوم اياه؟
وفجأة وقبل أن تجيب رفع يده ينوي تلطيخ تلك الرسمة بالحنة التي في يده، ولكنها إنتبهت بسرعة فأمسكت يده بقوة قبل أن تصل لكتفها، ثم دفعته بعنف وهي تزمجر فيه بحدة:.

-لا بقولك إيه، بتعاملني بهمجية وعديتها، قصيت شعري وقولت ماله مايضرش، لكن تبوظلي الرسمة اللي انا متحنطة بقالي ٣ ساعات عشان أرسمها لاااا، هي سايبه ولا إيه؟!

كان ينوي الاقتراب منها مرة اخرى مُصرًا على إفساد تلك الرسمة ولكنها دفعت يده بقوة حتى سقطت تلك الحنة من يداه على الارض، فحدقت بها بانتصار وهي تتنفس بارتياح…
بينما هو جذبها من ذراعها بعنف قابضًا عليه ليتابـع هدير غضبه الذي تفجر من طي الكتمان:
-وحياة امك لوريكي مين الهمجي، هو انتي لسه شوفتي همجية؟ انا هاسود حياتك لحد ما اعرف مين اللي قالك تعملي اللي عملتيه وساعدك.

ثم دفعها بعيدًا عنه بعنف لتسقط على الفراش متأوهه، فاستدار هو لمغادرة الغرفة وهو يردد بنفس العصبية الهوجاء:
-ومفيش خروج من الاوضة دي ولا حد هيدخلك حتى
وبالفعل خرج وبدأ يُغلق الباب من الخارج بالمفتاح الخاص بالغرفة، فجلست هي على الفراش ممسكة بزجاجة الطلاء لتبدأ بطلاء أظافرها وهي تتمتم ببراءة:
-لا يا يونس، اوعى تقفل الباب يا يونس لا والنبي متقفلوش!

شعرت بخطواته الحادة تبتعد عن الباب فتركت زجاجة الطلاء وهي تتنهد بعمق، لازال الطريق أمامها طويل، طويل ومخضرم بالأشواك الضارية…!

في القصر
في غرفة أيسل كانت تنهي تصفيف خصلاتها النارية المُجعدة، اليوم ستذهب لتتقدم للعمل بأحدى الشركات واخيرًا بعد إنتظار طال…!

بينما في الخارج كان بدر يبحث عن مريم التي لم يجدها في الغرفة التي خُصصت لها، فقابل احدى العاملات ليسألها بقلق:
-مشوفتيش مريم يا نسمة؟
ضيقت الاخرى عيناها متمتمة:
-تقريبًا شوفتها داخله اوضة أيسل هانم
اومأ برأسه موافقًا بهدوء:
-تمام شكرًا
ثم أسرع بخطواته نحو غرفة أيسل، طرق الباب مرتان ولم يجد رد ففتح الباب دون مقدمات ليجد أيسل التي خرجت من المرحاض تجفف يدها وهي تصيح فيه بغيظ:.

-إيه ده هو أنت ازاي تفتح الباب كده من غير استأذان افرض بعمل حاجة؟!
تجاهل بدر ما سمعه عن عمد وهو يغمغم ببرود وعيناه تجوب الغرفة بحثًا عن مريم :
-كنت بدور على مريم ونسمة قالتلي إنها هنا تقريبًا
عقدت ذراعاها معًا ومن ثم أردفت بحروف غاضبة مُغطاه برداء البرود:
-لا الست هانم بتاعتك جت هنا بالغلط ومشيت.

دلف بدر داخل الغرفة، ثم رفع إصبعه في وجهها وقد تبدلت نبرته لتصبح مشدودة حادة لتسقط داخلها قاصدة تذكيرها بما تحاول إلقاؤه لأبعد نقطة عن عقلها، ثم بدأ يُحذرها:
-اسمها مريم مش الست هانم بتاعتي، وبعد كده تاخدي بالك من تعاملك معاها متقعديش تقوليلها صاحبة القصر وبلا بلا بلا! انتي اللي محتاجانا مش احنا اللي هنموت ونقعد في القصر بتاعك!

فضربت أيسل بقدمها المنضدة الصغيرة الموضوعة امام المرآة، صارخة بعصبية وقد نفذت أي ذرة تحكم كانت تحاول الحفاظ عليها:
-انا مش محتاجة لأي حد لا انت ولا البت بتاعتك دي!
بينما وهي تضرب المنضدة سقطت زجاجة العطر لتتهشم ارضًا ولم تعيرها أيسل اهتمام، فعاد بدر خطوتان للخلف وهو يشير بعيناه للأرضية التي تبللت بالعطر، ثم قال بجمود آمرًا:
-يلا يا شاطره روحي امسحي اللي وقعتيه
إتسعت عيناها بذهول، أيحاول تأديبها؟!

فهزت رأسها بعناد تضخم مستوطنًا عيناها، لترد بحدتها المعهودة:
-مش ماسحه! وأعلى ما في خيلك اركبه، اي حد هيجي يمسح دلوقتي
هز بدر رأسها نافيًا بنفس الهدوء الصلب الذي جعل كل خلية بـ أيسل تهتاج بالجنون:
-هتمسحي، طالما انتي اللي وقعتيها اتحملي اللي عملتيه وامسحيها، اللي هيمسحها مفيهوش ايد مش فيكي!
ثم أمسك مقبض الباب رافعًا كتفاه معًا بلامبالاة خبيثة:.

-وإلا، مفيش خروج من الاوضة لحد ما الارض تتمسح، ووالدتك مش في البيت ومفيش حد في البيت غير نسمة وتقريبا مشغولة يعني حليني عقبال ما حد يعبرك ويفتحلك الباب
ولم ينتظر لحظة اخرى بل أغلق الباب لتضرب هي الباب بجنون من الخلف منادية بهيستيرية:
-انا محدش يقدر يجبرني على حاجة مش عايزاها!
لم يجيب بدر بل ظل صامتًا، وبالفعل كما توقع استكان اهتياجها وكُتم صوتها…

لترتخي نظراته بلذة الانتصار، لن يكون بدر الجمّال إن لم يعيد تربية تلك الطفلة المُدللة من البداية…!

بينما في الداخل كانت أيسل تمسح الأرضية كما استطاعت، وللأسف لم تفيدها خبرتها المعدومة بشأن امور المنزل، تمتمت بنبرة شبه باكية كالأطفال وهي تحرك قطعة القماش يمينًا ويسارًا:
-وديني وما أعبد لوريك يا بدر، انا يخليني امسح الارض غصب عني!

تحرك صدرها صعودًا وهبوطًا تحاول طرد أشباح الغضب التي تظلل الرؤيا الشيطانية عن عقلها، ثم ابتسمت ابتسامة ماكرة خالية من المرح وهي تنهض متوجهة للمرحاض لتجلب زجاجة الصابون، ثم همست بصوت منخفض حتى لا يسمعها وهي تسكب من زجاجة الصابون على الأرضية امام الباب مباشرةً:
-إما كسرتلك ضهرك مبقاش انا
وما إن انتهت حتى رفعت صوتها وهي تقف مبتعدة عن الباب بمسافة:
-انا خلصت!

فتح بدر الباب وكما توقعت لم ينظر ارضًا بل دلف اولاً وما إن لامس حذاءه الارضية اللزجة بالصابون حتى تحركت قدمه بسرعة رغمًا عنه ليختل توازنه ويسقط ارضًا متأوهًا بألم…
فتعالت ضحكات أيسل التي أخذت تضرب كفًا على كف وهي تتردد بشماتة واضحة:
-ادي اخرة اللي يجي عليا.

ولكن لم تكتمل ضحكاتها إذ جذبها بدر من قدمها بعنف لتسقط ارضًا جواره وتتلطخ ملابسها بذلك الصابون وهي تمسك ظهرها صارخة بألم، تحرك هو ليطل عليها بجسده العريض دون أن يلمسها، ثم ضرب بيده على الارض بقوة وهو يزمجر فيها بصوت اشبه بزئير الاسد:
-شغل الاطفال ده تبطليه! دي قلة ذوق وعقل.

تباطئت أنفاسها وإنتفض كيانها كله من قربه المُهلك، ثم نظرت هي لعيناه نظرة ملكومة بالغيظ والغضب ولكن ذلك الغضب تلك المرة لم يتخطى حدود عيناها ولم يصل لحروفها التي اختنقت في حلقها حينما ثار واقترب منها محدقًا فيها بتلك النظرة التي تكاد تبتلعها…

ثم نطقت اخيرًا بصوت طفولي مبحوح:
-قولتلك مية مرة انا مش طفلة، واتفضل ابعد عني يلا!
بينما وهي تحرك يداها المُلطخة بالصابون، فدخل الصابون في عيناه فأغلق عيناه تلقائيًا وهو يبتعد عنها ولكنها أسرعت تقترب منه بسرعة وهي تضع طرف التيشرت الذي ترتديه على عيناه وتنفخ فيها بينما تردد بلهفة:
-سوري سوري المرادي مش قصداها والله أنت اللي رزقك واسع!

كانت قريبة منه جدًا دون أن تلحظ ذلك، للحظات اضطربت مشاعر بدر وهو يحدق بها بعينه الاخرى، مأخوذ هو في تلك اللحظات ما بين الصدمة والغيظ والحيرة، الحيرة من ماهية تلك الفتاة التي لا يعرف لها وصفًا!..

وحينما بدأ تفكيره ينحدر لنحو لا يعجبه دفعها بقوة بعيدًا عنه مذكرًا نفسه بما فعلته في غاليته مريم…
لينهض مرددًا بشيء من القسوة الغير مبررة والتي زرعتها فيه مريم:
-بطلي الشغل ده، واياكي تقربي مني كده ولا تمثلي إنك خايفة عليا انتي واحدة خبيثة!
ثم غادر الغرفة بسرعة، وكأنه يحارب، يحارب شيء مجهول داخله، بينما هي تلوم نفسها بشدة على مشاعرها التي فضحتها امامه بتلك السهولة…!

وقفت مريم في غرفتها أمام المرآة، تنظر لوجهها بصمت، ثم رفعت يدها لتزيل ذلك اللاصق الذي كان يغطي جزءًا واضحًا من وجنتها، لتظهر تلك العلامة الكبيرة التي توحي بأثر السكين التي مرت على وجنتها يومًا ما قاصدة تشويهها…!

لم تكن تلك مجرد علامة شوهت وجهها، بل في تلك العلامة يكمن حقدها، سواد روحها متجمعًا في تلك العلامة، ذلك اليوم لن تنساه طوال حياتها، وكأن حياتها توقفت عند تلك النقطة..!

رفعت إصبعها تتلمس تلك العلامة بأصابع مرتعشة، لتهمس بنبرة غلبها الكره والقهر:
-مش هسيب حقي، هاخد حقي منك يا أيسل والعلامة دي مش هشيلها قبل ما اخد انتقامي منك وأشوههك بواحدة زيها، كل اللي حصلي لازم يحصلك
أمسكت بهاتفها لتتصل بأحد الارقام، ثم وضعت الهاتف عند اذنها منتظرة الرد، ليأتيها الرد بعد دقيقة فهتفت بهمس ناعم كجلد ثعبان سام:
-هاجيبها معايا بعد بكره وانا بشتري الهدوم، جه دورك ترديلي جميلي.

ثم عادت لتتلمس تلك العلامة لتتابع بابتسامة شيطانية مريضة:
-عايزه نفس العلامة اللي على وشي تكون على وشها، والموضوع يبان سرقة عادي جدًا!

خلال اليوم التالي
إنتفضت ليال على صوت الباب الذي فُتح بعنف ويونس يدلف بهيئة لا تبشر بالخير، فاقترب منها ببطء بينما هي تتراجع للخلف بسرعة وتسأله بنبرة مضطربة:
-في ايه وبتقرب كده لية؟
فقال يونس بصوت غامض ولكن نيته الخبيثة لمعت من مقدمة حروفه:
-لأخر مرة هسألك عشان ابرئ ضميري، مين قالك وساعدك عشان تعملي اللي عملتيه يا ليال؟
هزت الاخرى رأسها مبتلعة ريقها بتوتر ثم ردت:
-قولتلك يا يونس محدش آآ…

فقاطع يونس تلك الاجابة التي يحفظها عن ظهر حتى اصبحت مفتاح مغارة غضبه الاسود الهوجاء المجهولة النوايا…!
-انا كده عملت اللي عليا، وبما إنك قولتي إني اعتديت عليكي يبقى المفروض تكوني مدام، وبما إنك عارفه إني ابن العمدة والناس كلها تعرفني فمش هينفع اخدك لدكتور
ثم ظهرت ابتسامة خبيثة على شفتاه وهو يتابع:
-بس جبتلك ستات متخصصة للحاجات دي تكشف عليكي وتعرف!

إتسعت حدقتاها بهلع وهي تعود للخلف برعب نافية برأسها:
-لا يا يونس انت اكيد مش هتكشف مراتك على ناس غريبة وبالطريقة دي!
لم يرد يونس بل فتح الباب ثم أشار بيداه موجهًا انظاره خارج الغرفة:
-تعالوا يلا
و…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
نبضات قلب الأسد الفتاة والشخابيط